الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الجنة مائةُ درجةٍ ما بين كلِّ درجةٍ مسيرةُ مائة عام، والفردوسُ أعلاها وفيها الأنهارُ الأربعةُ فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفِردوسَ فإن فوقه عرشَ الرحمن ومنه تفجّر أنهار الجنة» {نُزُلًا} خبرُ كانت والجار والمجرور متعلقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من نزلًا، أو على أنه بيانٌ أو حالٌ من جنات الفردوس والخبرُ هو الجارُّ والمجرورُ فإن جعل النزول بمعنى ما يُهيَّأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمارُ جناتِ الفردوس نزلًا، أو جُعلت نفسُ الجنّات نزلًا مبالغةً في الإكرام، وفيه إيذانٌ بأنها عند ما أعد الله لهم على ما جرى على لسان النبوة من قوله: «أَعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عينٌ رأتُ، ولا أُذنٌ سمِعتْ ولا خطرَ على قلب بشر» بمنزلة النزلِ بالنسبة إلى الضيافة، وإن جُعل بمعنى المنْزِل فالمعنى ظاهر.{خالدين فِيهَا}.نصب على الحالية {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} مصدرٌ كالعِوج والصِّغر، أي لا يطلبون تحوّلًا عنها إذ لا يُتصوّر أن يكون شيءٌ أعزَّ عندهم وأرفعَ منها حتى تُنازِعَهم إليه أنفسُهم وتطمَح نحوه أبصارُهم، ويجوز أن يراد نفيُ التحول وتأكيدُ الخلود، والجملة حالٌ من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فيكون حالًا متداخِلةً.{قُل لَّوْ كَانَ البحر} أي جنسُ البحر {مِدَادًا} وهو ما تُمِدُّ به الدواةُ من الحبر {لكلمات رَبّى} لتحرير كلماتِ علمِه وحكمتِه التي من جملتها ما ذكر من الآيات الداعيةِ إلى التوحيد المحذّرة من الإشراك {لَنَفِدَ البحر} مع كثرته ولم يبقَ منه شيء لتناهيه {قَبْلَ أَن تَنفَدَ} وقرئ بالياء والمعنى من غير أن تنفد {رَبّى لَنَفِدَ} لعدم نتاهيها فلا دِلالةَ للكلام على نفادها بعد نفادِ البحرِ، وفي إضافة الكلماتِ إلى اسم الربِّ المضافِ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في الموضعين من تفخيم المضافِ وتشريفِ المضاف إليه ما لا يخفى، وإظهارُ البحر والكلماتِ في موضع الإضمارِ لزيادة التقرير {وَلَوْ جِئْنَا} كلامٌ من جهته تعالى غيرُ داخل في الكلام الملقّن جيء به لتحقيق مضمونِه وتصديقِ مدلولِه مع زيادة مبالغةٍ وتأكيد، والواوُ لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفةِ المقابلةِ لها المحذوفة لدِلالة المذكورةِ عليها دَلالةً واضحة، أي لنفد البحرُ من غير نفادِ كلماته تعالى لو لم نجِىءْ بمثله مددًا ولو جئنا، بقدرتنا الباهرة {بِمِثْلِهِ مَدَدًا} عونًا وزيادةً لأن مجموعَ المتناهيَيْن متناهٍ، بل مجموعُ ما يدخل تحت الوجود من الأجسام لا يكون إلا متناهيًا لقيام الأدلةِ القاطعة على تناهي الأبعادِ، وقرئ: {مُدَدًا} جمع مُدّة وهي ما يستمدّه الكاتبُ، وقرئ: {مِدادًا}.{قُلْ} لهم بعد ما بينْتَ لهم شأن كلماتِه تعالى: {إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} لا أدّعي الإحاطةَ بكلماته التامة {يوحى إِلَىَّ} من تلك الكلماتِ {أَنَّمَا إلهكم إله واحد} لا شريكَ له في الخلق ولا في سائر أحكامِ الألوهيةِ، وإنما تميزْتُ عنكم بذلك {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} الرجاءُ توقعُ وصولِ الخير في المستقبل، والمرادُ بلقائه تعالى كرامتُه، وإدخالُ الماضي على المستقبل للدِلالة على أن اللائقَ بحال المؤمن الاستمرارُ والاستدامةُ على رجاء اللقاءِ، أي فمن استمر على رجاء كرامتِه تعالى {فَلْيَعْمَلِ} لتحصيل تلك الطِّلْبةِ العزيزة {عَمَلًا صالحا} في نفسه لائقًا بذلك المرجوِّ كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} إشراكًا جليًا كما فعله الذين كفروا بآيات ربِّهم ولقائه، ولا إشراكًا كما يفعله أهلُ الرياء ومَنْ يطلبُ به أجرًا، وإيثارُ وضعِ المُظهَرِ موضعَ المُضمر في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبيةِ لزيادة التقريرِ، وللإشعار بعلية العنوانِ للأمر والنهي ووجوبِ الامتثالِ فعلًا وتركًا.روي أن جُندُبَ بنَ زهير رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعمل العملَ لله تعالى فإذا اطّلع عليه سرّني، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا يقبل ما شوُرك فيه» فنزلت تصديقًا له. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال له: «لك أجران أجرُ السرِّ وأجرُ العلانية» وذلك إذا قصد أن يُقتدى به. وعنه عليه السلام: «اتقوا الشركَ الأصغرَ» قيل: وما الشركُ الأصغرُ؟ قال: «الرياء».عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورةَ الكهفِ من آخرها كانت له نورًا من قَرْنه إلى قدمه، ومن قرأها كلَّها كانت له نورًا من الأرض إلى السماء». وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ عند مضجعه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ}.. إلخ، كان له من مضجعه نورًا يتلألأ إلى مكةَ، حشْوُ ذلك النورِ ملائكةٌ يصلّون عليه حتى يقوم، وإن كان مضجعُه بمكةَ كان له نورًا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمورِ، حشوُ ذلك النورِ ملائكةٌ يصلُون عليه حتى يستيقظ» الحمد لله سبحانه على نعمه العِظام. اهـ.
.قال الألوسي: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ}.بيان بطريق الوعد لمآل الذين اتصفوا باضداد ما اتصف به الكفرة اثر بيان ما لهم بطريق الوعيد أي إن الذين آمنوا بآيات ربهم ولقائه سبحانه: {وَعَمِلُواْ} من الأعمال {المتقون كَانَتْ لَهُمْ} فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده فالمضي باعتبار ما ذكر.وفيه على ما قال شيخ الإسلام إيماء إلى أن أثر الرحمة يصل إليهم بمقتضى الرأفة الأزلية بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلا فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارهم، وقيل: يجوز أن يكون ما وعدوا به لتحققه نزل منزلة الماضي فجيء بكان اشارة إلى ذلك ولم يقل اعتدنا لهم كما قيل فيما مر للإشارة إلى أن أمر الجنات لا يكاد يتم بل لا يزال ما فيها يزداد فإن اعتاد الشيء وتهيئته يقتضي تمامية أمره وكماله وقد جاء في الآثار أنه يغرس للمؤمن بكل تسبيحة يسبحها شجرة في الجنة، وقيل: التعبير بما ذكر أظهر في تحقق الأمر من التعبير بالاعتاد ألا ترى أنه قد تهيأ دار لشخص ولا يسكنها ولا يخلو عن لطف فافهم.{جنات الفردوس} أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن الفردوس هو البستان بالرومية، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى أنه الكرم بالنبطية وأصله فرداسًا، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن عبد الله بن الحرث أن ابن عباس سأل كعبًا عن الفردوس فقال: جنة الأعناب بالسريانية، وقال عكرمة: هي الجنة بالحبشية، وقال القفال: هي الجنة الملتفة بالأشجار، وحكى الزجاج أنها الأودية التي تنبت ضروبًا من النبات، وقال المبرد: هي فيما سمعت من العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب ونص الفراء على أنه عربي أيضًا ومعناه البستان الذي فيه كرم وهو مما يذكر ويؤنث، وزعم بعضهم أنها لم تسمع في كلام العرب إلا في قول حسان:وهو لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت: وجاء في شعر جرير في أبيات يمدح بها خالد بن عبد الله القسرى حيث قال: ومما سمعه أهل مكة قبل إسلام سعد قول هاتف: والحق أن ذكرها في شعر الإسلاميين كثير وفي شعر الجاهليين قليل، وأخرج البخاري، ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنها تفجر أنهار الجنة»، وعن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعًا الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض والفردوس أعلى الجنة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، وروى عن كعب أنه ليس في الجنة أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وصح أن أهل الفردوس ليسمعون اطيط العرش، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا الفردوس مقصورة الرحمن وكل ذلك لا ينافي كون الفردوس في اللغة البستان كما توهم إذ لا مانع من أن يكون أعلى الجنة بستانًا لكنه لكونه في غاية السعة أطلق على كل قطعة منه جنة فقيل جنات الفردوس كذا قيل واستشكل بأن الآية حينئذ تفيد أن كل المؤمنين في الفردوس المشتمل على جنات وهذا لا يصح على القول بأن الفردوس أعلى الدرجات إذ لا شبهة في تفاوت مراتبهم. وكون المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات طائفة مخصوصة من مطلق المؤمنين مع كونه في مقابلة الكافرين ليس بشيء وقال أبو حيان: الظاهر أن معنى جنات الفردوس بساتين حول الفردوس ولذا أضيفت الجنات إلى الفردوس وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لما أن الآية حينئذ تفيد أن جميع المؤمنين في جنات حول الفردوس ومن المعلوم أن منهم من هو في الفردوس وقيل: الأمر كما ذكر أبو حيان إلا أنه يلتزم الاستخدام في الآية بأن يراد مطلق الجنات فيما بعد، وفيه مع كونه خلاف الظاهر ما لا يخفي وقيل المراد من جنات الفردوس جميع الجنات والإضافة إلى الفردوس التي هي أعلاها باعتبار استمالها عليها ويكفي في الإضافة هذه الملابسة، ولعلك تختار أن الفردوس في الآثار بمعنى وفي الآية بمعنى آخر وتختار من معانيه ما تكلف في الإضافة فيه كالشجر الملتف ونحوه، وظاهر بيت حسان وبيت أمية شاهد على أن للفردوس معنى غير ما جاء في الآثار فليتدبر.واعلم أنه استشكل أيضًا ما جاء من أمر السائل بسؤال الفردوس لنفسه مع كونه أعلى الجنة بخبر أحمد عن أبي هريرة مرفوعًا «إذا صليتم علي فاسألوا الله تعالى لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو» واجيب بأنه لا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات بعضها أعلى من بعض وتكون الوسيلة عبارة عن أعلى درجات الفردوس التي هي أعلى درجات الجنان، ونظير ذلك ما قيل في حد الإعجاز فتذكر، وقيل المراد من الدرجة في حديث الوسيلة درجة المكانة لا الماكن بخلافها فيما تقدم فلا اشكال، والجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه حال من قوله تعالى: {نُزُلًا} أو على أنه بيان كما في سعيا لك وخبر كان في الوجهين {نُزُلًا} أو على أنه الخبر و{نُزُلًا} حال من {جنات} فإن جعل بمعنى ما يهيأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس نزلا أو جعلت نفس الجنات نزلا مبالغة في الإكرام وفيه إيذان بأنها عندما أعد الله تعالى لهم على لسان النبوة من قوله تعالى: {رزقناهم تالله لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشّرَ} بنزلة النزل بالنسبة إلى الضيافة، وإن جعلت بمعنى المنزل فالمعنى ظاهر.{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)}.{لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} هو كما قال ابن عيسى وغيره مصدر كالعوج والصغر والعود في قوله: أي لا يطلبون عنها تحولا إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم وأرفع منها حتى تنازعهم إليه أنفسهم وتطمح عنه أبصارهم وان تفاوتت درجاتهم، والحاصل أن المراد من عدم طلب التحول عنها كونها أطيب المنازل وأعلاها، وقال ابن عطية: كأنه اسم جمع وكأن واحده حوالة ولا يخفى بعده، وقال الزجاج عن قوم: هو بمعنى الحيلة في التنقل وهو ضعيف متكلف، وجوز أن يراد نفي التحول والانتقال على أن يكون تأكيدًا للخلود لأن عدم طلب الانتقال مستلزم للخلود فيؤكده أو لأن الكلام على حد. أي لا يتحولون عنها فيبغوه، وقيل في وجه التأكيد: أنهم إذا لم يريدوا الانتقاللا ينتقلون لعدم الإكراه فيها وعدم إرادة النقلة عنها فلم يبق إلا الخلود إذ لا واسطة بينهما كما قيل، والجملة حال من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فتكو حالا متداخلة، وفيها إيذان بأن الخلود لا يورثهم مللًا.{قُل لَّوْ كَانَ البحر} أي جنس البحر {مِدَادًا} هو في الأصل اسم لكل ما يمد به الشيء واختص في العرف لما تمد به الدواة من الحبر {لكلمات رَبّى} أي معدًا لكتابة كلماته تعالى، والمراد بها كما روي عن قتادة معلوماته سبحانه وحكمته عز وجل {لَنَفِدَ البحر} مع كثرته ولم يبق منه شيء لتناهبة {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى} لعدم تناهيها {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} عونا وزيادة لأن مجموع المتناهيين متناه بل جميع ما يدخل في الوجود على التعاقب أو الاجتماع متناه ببرهان التطبيق وغيره من البراهين، وهذا كلام من جهته تعالى شأنه غير داخل في الكلام الملقن جيء به لتحقيق مضمونه وتصديق مدلوله على أتم وجه، والواو لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفة المقابلة لها المحذوفة لدلالة المذكور عليها دلالة واضحة أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته تعالى لو لم نجيء بمثله مددًا ولو جئنا بمثله مددًا، والكلام في جواب {لَوْ} مشهور وليس قوله تعالى: {قَبْلَ أَن تَنفَدَ} للدلالة على أن ثم نفادًا في الجملة محققًا أو مقدرًا لأن المراد منه لنفد البحر وهو باقية إلا أنه عدل إلى المنزل لفائدة المزاوجة وإن ما لا ينفد عند العقول العامية ينفد دون نفادها وكلما فرضت من المد فكذلك والمثل للجنس شائع على أمثال كثيرة تفرض كل منها مددًا، وهذا كما في الكشف أبلغ من وجه من قوله تعالى: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27]. وذلك أبلغ من وجه آخر وهو ما في تخصيص هذا العدد من النكتة ولم يرد تخصيص العدة ثم فيه زيادة تصوير لما استقر في عقائد العامة من أنها سبعة حتى إذا بالغوا فيما يتعذر الوصول إليه قالوا هو خلف سبعة أبحر، وفي إضافة الكلمات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في الموضعين من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى، وإظهار البحر والكلمات في موضع الإضمار لزياد، ة التقرير، ونصب {مَدَدًا} على التمييز كما في قوله: وجوز أبو الفضل الرازي نصبه على المصدر على معنى ولو أمددنا بمثله إمدادًا وناب المدد عن الإمداد على حد ما قيل في قوله تعالى: {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17] وفيه تكلف وقرأ حمزة، والكسائي، وعمرو بن عبيد، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى {قَبْلَ أَنْ يَنفَدُ} بالياء آخر الحروف، وقرأ السلمي {أَن تَنفَدَ} بالتشديد على تفعل على المضي وجاء كذلك عن عاصم، وأبي عمرو. فهو مطاوع نفد مشددًا نحو كسرته فتكسر وقرأ الأعرج {بِمِثْلِهِ مَدَدًا} بكسر الميم على أنه جمع مدة وهو ما يستمده الكاتب فيكتب به، وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والأعمش، بخلاف، والتيمي، وابن محيصن، وحميد، والحسن في رواية، وأبو عمرو كذلك وحفص كذلك أيضًا {مِدَادًا} بألف بين الدالين وكسر الميم. وسبب النزول أن حي بن أخطب كما رواه الترمذي عن ابن عباس قال: في كتابكم {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ثم تقرؤون {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ومراده الاعتراض بأنه وقع كتابكم تناقض بناء على أن الحكمة هي العلم وأن الخير الكثير هو عين الحكمة لا آثارها وما يترتب عليها لأن الشيء الواحد لا يكون قليلًا وكثيرًا في حالة واحدة فالآية جواب عن ذلك بالإرشاد إلى أن القلة والكثرة من الأمور الإضافية فيجوز أن يكون الشيء كثيرًا في نفسه وهو قليل بالنسبة إلى شيء آخر فإن البحر مع عظمته وكثرته خصوصًا إذا ضم إليه أمثاله قليل بالنسبة إلى كلماته عز وجل، وقيل سبب ذلك أن اليهود قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليه وانك أعطيت من العلم ما يحتاجه الناس، وقد سئلت عن الروح فلم تجب فيه؟ ومرادهم الاعتراض بالتناقض بين دعواه عليه الصلاة والسلام وحاله في زعمهم بناء على أن العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس وأنه صلى الله عليه وسلم لم يفده عبارة ولا إشارة والجواب عن هذا منع كون العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس في أمر دينهم المبعوث له الأنبياء عليهم السلام والقائل «أنتم أعلم بأمور دنياكم» لا يدعي علم ما يحتاجه الناس مطلقًا، وأنت تعلم أن الآية لا تكون جوابًا عما ذكر على تقدير صحة كون ذلك سبب النزول إلا بضم الآية الآتية إليها ومع هذا يحتاج ذلك إلى نوع تكلف.
|